متى يدرك النرجسي أنه خسر شخصاً لن يعود؟ وكيف تتعايشين معه دون أن تحترقي بناره؟
━━━━━
بقلم: ليلى سليم
هل صرختِ في وجهه يوماً بأعلى صوتك مهددة بالرحيل؟ هل بكيتِ أمامه بحرقة وأنتِ تشرحين له حجم الألم الذي سببه لكِ، ظناً منكِ أن هذه الدموع ستوقظ ضميره؟ هل دخلتِ معه في جدال استمر لساعات لتثبتي له أنه مخطئ؟ هل تجاهلتي النرجسي لأيام و أسابيع وشهو أو يمكن لسنوات؟
إذا كانت إجابتك نعم، ويؤلمني أن أقول لكِ هذا، فأنتِ لم تخيفيه، ولم تنتصري عليه، بل على العكس تماماً.. أنتِ قمتِ بتغذية وحشه الداخلي ومنحته صك ملكية جديداً لروحك.
هناك خيط رفيع جداً، ومفهوم خطير يقع فيه معظم ضحايا العلاقات السامة مثل العلاقت النرجسية، وهو الاعتقاد بأن "المواجهة العاطفية والتجاهل القوي" هما دليل قوة. الحقيقة الصادمة هي أن النرجسي لا يرى دموعك ولا صراخك ولا تجاهلك كعلامات على قوتك أو رغبتك في الرحيل، بل يراها "وقوداً" يطمئنه أنكِ ما زلتِ تحت سيطرته، وأنكِ ما زلتِ تهتمين لأمره بما يكفي لتفقدي أعصابك بسببه.
في هذا المقال التفصيلي، سنكشف لكِ الستار عن اللحظة الحقيقية التي يسقط فيها قلب النرجسي رعباً لأنه أدرك أنه خسركِ للأبد، وسنوضح الفارق الجوهري بين استراتيجيات "القطع النهائي" واستراتيجيات "التعايش الذكي" إذا كنتِ مضطرة للبقاء معه من أجل الأولاد أو ظروف أخرى، وكيف تحافظين على عقلك من الانهيار في كلتا الحالتين.
ما هو الفخ الذي تقع فيه الضحية وتظنه قوة وهو في الحقيقة ضعف؟
في عالم العلاقات الطبيعية، عندما يغضب أحد الطرفين ويهدد بالرحيل، يشعر الطرف الآخر بالخوف ويحاول الإصلاح. لكنكِ هنا تتعاملين مع كائن مختلف سيكولوجياً. النرجسي يقتات على ردود أفعالك العاطفية، سواء كانت إيجابية (حب ومدح) أو سلبية (غضب وبكاء).
عندما تقفين أمامه وتصرخين: "أنا أكرهك، سأتركك، أنت دمرت حياتي"، يترجم عقله هذه الجملة إلى: "أنا متأثرة بك جداً، أنت محور حياتي، وأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير فيك". بالنسبة له، الكراهية ليست عكس الحب، بل هي وجه آخر للاهتمام.
القوة المزيفة التي تضرك:
- التهديدات المتكررة بالرحيل دون تنفيذ: تجعله يراكِ كشخص ضعيف لا يملك قراره، وبالتالي يتمادى في الإساءة.
- مواجهته بحقيقته ومحاولة تعليمه الأخلاق لن تجدي نفعاً، بل ستشعل غضبه النرجسي وتجعله يقلب الطاولة عليكِ ويتهمكِ بالجنون.
- محاولة إثارة غيرته أو استفزازه تجعله يدخل معك في حرب تكسير عظام، وهو يملك أسلحة أقذر مما تتخيلين.
القوة الحقيقية أمام النرجسي هي "التفاعل الانتقائي"، "الثبات"، و"الغموض". القوة هي ألا يحرك فيكِ ساكناً وفي نفس الوقت أنت متفاعلة معه.
متى يدرك النرجسي فعلياً أنه خسركِ وأنكِ لن تعودي؟
النرجسي مغرور جداً لدرجة أنه يعتقد أنكِ ستظلين متاحة له للأبد، حتى لو انفصلتم. يظن أنه بمجرد أن يلوح لكِ بلفتة صغيرة (Hoovering)، ستعودين راكضة.
لكن، هناك لحظة مرعبة للنرجسي، لحظة يدرك فيها أن "اللعبة انتهت". هذه اللحظة ليست عندما تحظرينه (البلوك)، وليست عندما تشتمينه. إنها اللحظة التي تصبحين فيها غير مبالية فعلا بوجودة حينها تنتهي العلاقة فعلياً بينك وبين النرجسي معما حاول بعدها أن يختبرك.
النرجسي يعرف أنه خسركِ عندما:
❶ يتحول وجوده إلى "العدم" بالنسبة لكِ، تمرقين بجانبه وكأنه قطعة أثاث، لا تنظرين إليه بغضب ولا بحب، بل بنظرة "فراغ" وكأنه غير مهم في حياتك أو مجرد محفظة تأخذين منه المال.
❷ تتوقفين عن الدفاع عن نفسك، عندما يتهمكِ بشيء مستفز مثل أنت غبية أو مريضة، وبدلاً من كتابة رسائل طويلة للدفاع عن نفسك، تكتفين بهز كتفك أو قول "فكر كما تشاء" وتكملين حياتك. حينها يكرهك ويبدأ في تدميرك ببطء حتى تنتهي العلاقة وتذبل تدريجياً.
❸ تسحبين الوقود عنه، ويتوقف مدحك له، وتتوقف شكواك منه. الصمت المطبق والتجاهل والبعد عنه كلما رأيته في مكان، هو العدو الذي لا يستطيع النرجسي هزيمته.
❹ تزدهرين بدونه ويراكِ تنجحين، تضحكين بصدق، وتصبحين أجمل وأقوى بعيداً عنه. هنا يدرك أنكِ لم تعودي بحاجة إليه لتعيشي، وهذا يقتله نفسياً لأنه يعيش على فكرة أنكِ "لاشيء" بدونه.
مفترق الطرق: هل تريدين الرحيل أم التعايش؟ (الخلط هنا كارثة)
هنا نصل إلى النقطة الأهم في هذا المقال. الكثير من الضحايا يعانون لأنهم يستخدمون أساليب "الانفصال" على أنها أساليب تهذيب للنرجسي، وهم ما زالوا يعيشون في نفس البيت، أو يستخدمون أساليب "التعايش" وهم يريدون الانفصال.
يجب أن تكوني واضحة جداً مع نفسك:
- هل تختارين أولا: أنا قررت الانفصال النهائي ولن أعود.
- أم تختارين ثانياً: أنا مضطرة للبقاء حالياً (لأجل الأولاد، المال، السكن) وأريد تقليل الخسائر.
لكل سيناريو أسلحة مختلفة تماماً. استخدام أسلحة السيناريو الأول في الثاني قد يحول بيتك إلى جحيم لا يطاق ولن تحصلي على نتيجة مرضية ابدا.
إذا قررتِ البقاء والتعايش: كيف تديرين اللعبة دون أن تخسري عقلك؟
إذا كان قرارك هو البقاء، فلا يمكنكِ التعامل مع النرجسي بمنطق "التحدي السافر" طوال الوقت بالمواجهة والتجاهل وابراز قوتك حتى تعمي عينيه، لأنكِ ستستنزفين طاقتك في معارك يومية لا تنتهي. التعايش مع النرجسي يتطلب ذكاءً عاطفياً ومناورة، وليس مصادمة.
1. لا تواجهي.. بل راوغي
مواجهة النرجسي بحقيقته أو تحديه بشكل مباشر سيشعل "الغضب النرجسي". هو لن يعترف بخطئه أبداً، بل سيحول حياتك لجحيم.
الأسلوب الخاطئ: "أنت نرجسي ومؤذٍ وأنا لن أسمح لك بالتحكم بي بعد الآن".
أسلوب التعايش: "أنا أفهم وجهة نظرك، ولكنني أفضل أن نفعل الأمر بهذه الطريقة"، أو استخدام الإطراء البسيط لتمرير ما تريدين بذكاء (نعم، هذا تلاعب، لكنكِ تتعاملين مع متلاعب لتنجي بنفسك).
2. ضعي حدوداً ناعمة ولكن فولاذية
الحدود مع النرجسي لا يجب أن تعلن كـ "حرب"، بل كواقع. لا تقولي له "أنت ممنوع من الصراخ"، بل قولي "أنا لا أستطيع إكمال النقاش وهناك صوت عالٍ، سأذهب لغرفتي وسنتحدث عندما نهدأ".
هنا أنتِ لم تأمريه (مما يستفز غروره)، بل تحكمتِ في رد فعلك أنتِ. هو سيصرخ، دعيه يصرخ، لكنكِ نفذتِ الحد وانسحبتِ. مع الوقت، سيفهم أن الصراخ يعني انسحابك، وليس خضوعك.
3. تقنية "الصخرة الرمادية" داخل المنزل
هذه التقنية هي طوق النجاة لمن يعيش مع نرجسي ولها تكتيك يختلف من حالةً إلى أخرى. الهدف منها أن تصبحي مملة ومتفاعلة في نفس الوقت بحيث لا يجد فيكِ أي "دراما" يتغذى عليها ولا يمل منك ويحفظك في نفس الوقت.
* لا تخاصمي النرجسي ولكن تكلمي معه باقتضاب (نعم، لا، ربما).
* لا تشاركي أخبارك السعيدة (سيفسدها) ولا الحزينة (سيشمت).
* تحدثي في الأمور الروتينية مثل (الطقس، طلبات البيت).
* كوني بلا طعم معين ولا لون عاطفي واحد أمامه. سيبحث عن وقود في مكان آخر ويتركك في سلام نسبي.
4. اختاري معاركك بعناية
النرجسي يلقي لكِ "سنارة" الاستفزاز يومياً. إذا التقطتِ كل سنارة، ستعيشين في نكد دائم. تجاهلي التعليقات السخيفة، تجاهلي النظرات المستفزة، ووفر طاقتك للمعركة الكبيرة والحقيقية (مثل قرار يخص مستقبل الأولاد أو المال). هنا كوني حازمة، أما توافه الأمور فمرريها.
كيف تتعايشين وتحمين نفسك والأولاد من سمه؟
البقاء مع النرجسي له ضريبة، والضريبة تُدفع من صحتك النفسية وصحة أولادك. لذا، التعايش لا يعني الاستسلام، بل يعني بناء "عالم موازي" داخل البيت.
1. بناء الحصن النفسي (الانفصال العاطفي وأنتِ معه)
عليكِ أن تقتلي الأمل في أنه سيتغير. هذا مؤلم ولكنه محرر. توقفي عن انتظار كلمة حلوة أو اعتذار. اشبعي عاطفتك من علاقتك بالله، من أهلك، من صديقاتك، ومن حبك لنفسك. اعتبريه مجرد "زميل سكن مزعج" عليكِ التعامل معه برسمية.
2. حماية الأولاد: أنتِ الجدار العازل
النرجسي سيرى أولاده إما امتداداً له (الطفل الذهبي) أو كبش فداء. دورك هنا ليس تشويه صورة الأب (لأن هذا سيضرهم)، بل دورك هو "تصحيح الواقع".
- عندما يقلل من شأنهم، قولي لهم سراً: "رأي بابا يخصه هو، لكن الحقيقة أنكم رائعون وموهوبون".
- امنحيهم الحب غير المشروط الذي يفتقدونه منه.
- علميهم الحدود الشخصية بطريقة غير مباشرة.
- كوني أنتِ المرفأ الآمن الذي يرمون فيه مخاوفهم.
3. الاستقلال المالي والاجتماعي
لا تسمحي له بعزلك. النرجسي يريدك وحيدة لتكوني ضعيفة. حافظي على عملك، أو اصنعي دخلاً خاصاً ولو بسيطاً. حافظي على علاقاتك حتى لو كرهها. القوة الاقتصادية والاجتماعية هي التي ستجبره على احترام حدودك رغماً عنه، وهي التي ستكون تذكرتك للنجاة إذا قررتِ الرحيل يوماً ما.
سواء قررتِ الرحيل لتبدأي حياة جديدة، أو قررتِ البقاء والتعايش لأسبابك الخاصة، تذكري أنكِ لستِ وحدك، ولستِ ضعيفة. الوعي هو أول خطوات الشفاء.
إدراكك للفرق بين "ما يغذي النرجسي" و"ما يوقفه عند حده" هو سلاحك الأقوى. لا تحاولي هزيمته في ملعبه القذر، فلن تكسبي. انتصري عليه بأن تكوني سعيدة، قوية، ومستقلة نفسياً سواء كان موجوداً في حياتك أم لا.
أنتِ تملكين القوة لتعيدي كتابة قصتك. لا تجعلي فصلاً سيئاً مع شخص مضطرب يحدد نهاية الكتاب. حافظي على بريقك يا عزيزتي، فهو الشيء الوحيد الذي لا يحق لأحد انتزاعه منك.
هل تعيشين هذه التجربة الآن؟ هل وجدتِ أن أسلوب التجاهل أجدى نفعاً من المواجهة؟ شاركينا تجربتك بحذر، لعل كلماتك تكون نوراً لغيرك.
